بين مسرح «البيكاديلي» والعهد الجديد بادرة حسن نيّة تأخذ إلى ذلك الزمن الجميل أيام كانت بيروت تسهر مطولاً، وكان معها شارع الحمرا يصدح بالحناجر طرباً وبالأيادي تصفيقاً وبالابداع محطات ووجوه وأسماء كبرى.
هناك في «البيكاديلي» الذي ارتأت وزارة الثقافة أخيراً أن تنتشله من غباره ، ومن معالم الحريق «المزمن» الذي أتى على جدرانه وعلى المقاعد الثمانمئة المخملية، حقبة غنية من تاريخ لبنان الذي لا بد من استرداده، ومن البناء عليه في الطريق الى دورة حياة بلد ما كان يعرف أن ينام قبل طلوع الشمس ،وقبل أن تسدل ستائر المسارح، وقد كان «البيكاديلي» بمثابة جوهرة المسارح الأكثر استقطابا للنجوم ، بينهم فيروز والرحابنة، وقد شهدت خشبته عرض مسرحيات منها «الشخص» و«صح النوم» و«المحطة» و«هالة والملك» و«ميس الريم»، وكذلك «مدرسة المشاغبين» و«الواد سيد الشغال» لعادل إمام وغيرها من حفلات صباح وملحم بركات وماجدة الرومي والكثير من العروض التي دمغت حقبات ومحطات بالفرح والاندفاعة ونهضة راقت السياح الوافدين من مختلف أصقاع الأرض.
وإذا كانت سنوات الانتظار طويلة بالنسبة الى «البيكاديلي»، إذ تعود الى 15 سنة للوراء تاريخ آخر حريق أتى على قاعاته وزينة جدرانه، فإن اعادة الاعتبار اليه من خلال حرص وزير الثقافة غطاس خوري القيام بزيارة تفقدية وجولة في أرجاء الصرح الثقافي، وتأكيده على ضرورة إعادة رونق المسرح بالتعاون مع هيئة ضمان الودائع لتجديده وافتتاحه، إنما يشبه الحرية بعد حكم بالأشغال الشاقة ، فهل يرجع قريبا الى الضوء وأمجاده؟. رجاء يتخلله واقع ينقل صورة أليمة من الداخل، حيث الوصول الى المسرح في غاية السهولة بالنظر الى تربّعه على عرش ذاكرة الحمرا، في حين أن عبور الأدراج الخشبية شبه المهترئة يأخذ الى ورشة عمل، إذا ما انطلقت، فإنها بحاجة الى الكثير من الجهد والترميم ريثما تعود للمسرح أناقته، وقد اشتهر بثريات ضخمة وصل ثمن الواحدة منها في حقبة الستينيات الى الخمسين ألف دولار، ما يؤشر الى الرخاء الذي عرفته معالم البلد الثقافية ومدى الاهتمام بمثل تلك الأبنية والمعالم. وفي استعادة طلّته، يحضر سؤال آخر: «هل تعود فيروز الى خشبته لتغني مجددا، وتسأل: «وينن.. وين صواتن؟»، في المكان نفسه الذي غنت فيه العالمية الراحلة «داليدا» على مدى أربعة أيام في العام 1970.
وفي جولة في أرجائه، فإن مقاعد «البيكاديلي» المخملية الحمراء التي كانت تتسع إلى أكثر من 800 شخص موزّعة على طابقين، وثرياته الضخمة الفاخرة التي كانت تعلو سقفه وستائره الراقية التي أُسدلت على عظماء الفنانين، تسأل عن أيام «الصبوحة» وصوتها الجبلي الذي هزّ حناياه وقد أدّت على خشبته أكثر من خمس مسرحيات، وكل زاوية فيه تحنّ إلى أيام النجم الفرنسي العالمي «شارل أزنفور» الذي قدّم خمس حفلات من العام 1970 حتى العام 1975.
يسترجع مدير المسرح ميلاد حداد ذكرياته مع «البيكاديللي»: «آخر عمل شهده هذا المسرح كان حفلا غنائيا لماجدة الرومي في العام 1998. وقبل ذلك بسنتين عرض الموسيقار الراحل ملحم بركات مسرحيته «ومشيت بطريقي» مع الراقصة الراحلة داني بسترس. وكان من المقرر في العام 2000 أن يعود الكاتب مروان نجار بجزء ثان من مسرحيته «عريسين مدري من وين». لكن الحريق الذي التهم المسرح ومحتوياته حال دون تنفيذها».
ويضيف حداد :« تبلغ مساحة المسرح 2500 متر مربع مع إرتفاع 40 مترا وكان يضم حوالي 10 غرف واسعة في كواليسه لتبديل الملابس».
ويرى انه «لا يوجد في تاريخ المسارح اللبنانية فخامة في الهندسة والتصاميم توازي «البيكاديللي»، مشيراً إلى أن المهندس اللبناني وليم صيدناوي شيده في العام 1965 مقتبساً هندسته عن قصر في البرتغال، والإسم إستوحاه مالكاه الشقيقان محمد وعبد الكريم عيتاني من أحد المسارح الشهيرة في لندن. وقد حضر افتتاحه وزير الداخلية بيار الجميّل (مؤسس حزب الكتائب) ممثلاً رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو، وأول عمل مسرحي دشن على خشبته كان «هالة والملك» للاخوين الرحباني.
ولم يقتصر نشاط القصر على إستقبال الأعمال المسرحية والحفلات الغنائية الضخمة، فكان يتحول في المواسم المحددة إلى صالة سينما تستقطب أضخم الأفلام العربية والأجنبية، وأول فيلم عُرض داخله كان لعمر الشريف وهو «دكتور زيفاغو».
وفي حال تحققت الآمال بإحياء أمجاد «البيكاديلي»، فإن كلفة الترميم قد تصل الى المليوني دولار، ومع ذلك فإن القيمة المعنوية لذلك المسرح العريق تبقى الأساس مقارنة بالتكلفة.
وكان أحد المستثمرين عرض في العام 2010 على ورثة المالكين شراء المسرح لقاء مبلغ كبير لتحويله إلى مجمّع تجاري، إلا أن العرض قوبل بالرفض ريثما يأتي الوقت الذي يلقى فيه عناية خاصة باعتباره واحدا من أهم الصروح الثقافية في حقبة الستينيات والسبعينيات.
عازار
يستذكر هنري عازار، المهتم بتاريخ وأرشفة المسارح والسينما اللبنانية، والذي لا يزال يحتفظ بعدد كبير من بوسترات لمسرحيات فيروز وإبراهيم مرعشلي ولأفلام عّرضت فيه، أن العمل في «البيكاديللي» لم يتوقف إلا مع بداية الحرب. وفي العام 1978 حين كانت تُعرض مسرحية «بترا» لفيروز إشتد القصف بشكل جنوني ما أجبر الأخوين الرحباني على نقلها إلى «كازينو لبنان» كون منطقة جونيه لم تتأثر كثيراً بالحرب حينها.
وبانتظار المباشرة في ترميم المسرح، ليس على المارة الذين يعبرون في المكان، سوى الإلحاح في سؤال إدارة «مؤسسة ضمان الودائع»: هل بدأ العمل؟ ومتى يبدأ؟. وفي البال صدى صوت الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي تمنى يوما على مالك المسرح: «أنا بكون أسعد إنسان لو بترجع تفتح هيدي الصالة.. رجّع البيكاديلي مثل ما كانت».
فهل يرجع؟.