رأى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى انه :"في الزمن الصعب تبقى الثقافة ملجأً مشاعا لكلّ الناس. لا لتنسيهم واقعهم بل لكي تدلهم على القواعد الفكرية والآليات العلمية الكفيلة بتخطيه، بعيدًا من استثارة العصبيات والأنانيات والفئويات. ولبيروت دور أساسي هو بثُّ الوعي-الوعي لحتمية العيش معاً وغناه والوعي لما يحاك من مساع ترمي الى التفرقة والإنقسام- ولبيروت هوية واحدة تتمثّل في ثقافة الإنفتاح والعزّة والحريّة، أما غيرها مما قد تُنْسَبُ إليه العاصمةُ فَضَياع أو وهم أو هويَّات قاتلة كما قال أمين معلوف."
كلام الوزير المرتضى جاء خلال اعادة افتتاح المكتبة الوطنية في الصنائع برعاية وحضور رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي وذلك بعد الانتهاء من اعمال ترميم البناء الذي تضرر اثر انفجار مرفأ بيروت عدا الاضرار التي لحقت بالمعدات والاجهزة داخل المقر، في حضور وزير الدفاع موريس سليم، وزير الطاقة وليد فياض، وزير الصحة فراس أبيض، وزير الاقتصاد أمين سلام، وزير السياحة وليد نصار، وزير العمل مصطفى بيرم، وزيرة التنمية الادارية نجلا رياشي عساكر، وشخصيات ديبلوماسية وسياسية وثقافية وجامعية وتربوية
وتابع المرتضى :" ولأننا أبناء إيمان يا دولة الرئيس، وشعبنا يردد في صلواته قولاً من أحد الكتابين: (إقرأْ) و(في البدءِ كان الكلمة)، ولأن وطننا مهد الأبجدية أثمنِ إنجاز إنساني، ولأننا ننبذ الظلامية وموت الفكر والإنغلاق والخنوع ونتنفس الإنفتاح وقبول الآخر والعِزّة وعدم الركون للظلم، سنظل نقول: عشتم، عاشت الثقافة، وعاش لبنان."
وزير الثقافة سبق واستهل كلامه عن بدايات المكتبة الوطنية :" كان للبنانَ الكبير من العمرِ سنة واحدة حين تبرع له الكونت فيليب دي طرازي بمكتبته النادرةِ التي ضمت أكثرَ من عشرين ألف كتاب ونحوًا من ثلاثة آلاف مخطوطة، فتشكَّلَت بذلك "دار الكتب الوطنية"، أولى المؤسسات الرسمية المبنيَّة بأيد لبنانيةٍ صافيةِ العروق، بخلاف كثير من المؤسسات الوطنية التي كان الفَرنسيون وراء إنشائها وتنظيمِها زمنَ الانتداب. "
وأضاف :" وراح المحتوى المعرفي في هذه المكتبة يكبر عامًا بعد عام، كما يكبر الإنسانُ ولكنْ، من غير شيخوخةِ مداد أو وهَن أوراق. فإن بيروت يومذاك، وبعدَه إلى زمن قريب، كانت مَطبعةَ الشرق ومِنبرَه شبهَ الوحيد المنفتح على الثقافات قديمِها والجديد، وساحة نضاله المشرعةَ الجهات لرياح الحرية التي أثمرت مئات من دور النشر، وآلافًا مؤلَّفَةً من الكتب والمسارح والمعارض، وحَراكًا نهضويًّا حداثيًّا في الأدب والشعر وسائر الفنون الجميلة، وجامعات ومنتديات وإعلامًا وصِحافةً فاغتنت بآثار هذا كلِّهِ المكتبةُ الوطنية حتى اكتنزَت رفوفُها بالبدائعِ من كل طارف في الفكرِ وتليد."
وعن اهمية دور بيروت ثقافياً وحضارياً قال :" وتأكيدًا على هذه الحقيقة الغنية عن التأكيد، أسترجع أمامكم ما جاء في إعلان الأونيسكو لعام 2009 الذي عزا اختيار بيروت عاصمةً للكتاب إلى "كونها من أقدم مدن ساحل شرق المتوسط، وقد شعَّت في القرن الثالث مدرستُها للحقوق، وغدت إثر ثلاثة قرون بعدها مركزًا لتجارة الحرير، وفي القرن التاسع عشر باتت مركزًا اقتصاديًّا وثقافيًّا عامرًا بالجامعات والصحف، واعتُبرت بيروت مطبعةَ العالم العربي، وكان دورُها كبيرًا في نشر الكتب في دنيا العرب، مع إسهامِها الواسع في النهضة العربية، وهي تضم اليوم أكثرَ من عشر جامعات معروفة مع وفرة المراكز الثقافية". (انتهى الاقتباس).
وعن الواقع الراهن للمكتبة الوطنية قال المرتضى :"أما المكتبة الوطنية التي نجلس اليوم في رحابِها، فبالإضافة إلى الكتب المطبوعة والمنشورة في لبنان، والتي كانت تزود المكتبة بنسخ عنها عبرَ عملية الإيداع القانوني، لم يتوانَ القيمون على إدارتِها عن رفدها بما كانت تنتجه الأقلام العربية في دمشق وبغداد والقاهرة وسواهنَّ، من مؤلفات في مختلفِ نواحي الثقافة، مما لم يُنْشَرْ عندنا، وبما كانت تُنتجه الأقلام الأجنبية بلغات شتى في أقطار الأرض جمعاء. كذلك لم تتوانَ الدولةُ وبالتحديد وزراءُ الثقافةِ المتعاقبون عن بذل كلِّ الجهود لحفظِ هذا التراث، منذ افتتاح المكتبة في مبنى المدرسة الألمانية، حتى انتقالها إلى مجلس النواب في ساحة النجمة، حتى استقرارها ههنا في الصنائع، بعدما تبرعت دولة قطر مشكورةً بترميمِها مرتين: الأولى عام 2008 والثانية منذ سنة ونيف بالتعاون معALIPH FOUNDATION وهي تحالف دولي يعنى بالحفاظ على التراث في مناطق النزاعات في العالم، وذلك على إثرِ نكبة انفجار مرفأ بيروت، الذي ألحق عصفُه بالمكتبة أضرارًا فادحةً في البناء والتجهيزات والمعدات. أما الكتب فسلمت بفضل سرعة نقلها الى المخازن السفلى ضمن خطة الحفظ الوقائي والسيناريو الكوارثي لحفظ مجموعات المكتبة."
كما شدد المرتضى على اهمية مواكبة عمل المكتبة للتطور العلمي :"لم أُرِدْ في هذه العُجالةِ أن أكتفي برواية تاريخ وجيز عن المكتبة الوطنية. فرؤيةُ الأمسِ تبقى كليلةً إذا لم تُرافقْها رؤيا للمستقبل. من هنا يُهيبُ بنا التاريخ المشرق الذي زيَّنَتْه بيروت، أن نعملَ على توطيد دَور وزارة الثقافة في حماية هذا التاريخ وتسليمه إلى الأجيال الآتية حيًّا فاعلًا. والبدايةُ هنا في المكتبة الوطنية التي ينبغي لها أن تستكملَ دورَها الرائد بتقوية شبكة علاقاتها المهنية المحلية والدولية من أجل تنمية قدرات فريق عملها، والسعي إلى تغطية ما في المجموعات الكتبية من نقص، وإلى استعادة التراث الضائع وتشجيع التبادل العيني الذي تقدمه المكتبات والمؤسسات المختلفة عبر الشراكة والتعاون. مع التركيز على دعم اقتصاد المعرفة، في الزمن الذي أصبحت فيه المعلومةُ نقودَ العولمة، وعلى تنفيذِ مشروع رقمنة المجموعات ونشرها في العالم الافتراضي وإتاحتها أمام الراغبين، كي لا تظلَّ "المكتبة الوطنية" مجتمعًا للوثائق والكتب وفضاءً هادئًا للقراءة فقط، بل لتصير أيضًا مركزًا للبحوث الأكاديمية فتكونَ بذلك إلى جانب نظيراتها من المكتبات الخاصة والعامة عنوانًا لرسوخِ لبنان في ضمير الحضارة."
وأشارالمرتضى إلى ان للمكتبة الوطنية دورا آخر يتمحور:" حول أهمية جمع التراث الوطني في الموسيقى والغناء والسينما والمسرح، لتصير هذه الدار محل إقامة مختارا لكلّ أرشيف وفنٍ جميل. مهمة ينبغي لنا وضع دراساتها واستصدار التشريعات الضرورية لها إن لزم، والسعي إلى تأمين التمويل لإنجازها، مع الإقرار المسبق بالصعوبة التي ترافق هذا العمل نتيجة الأوضاع الاقتصادية والنقدية التي يمر بها الدولة والمواطنون."
وتوجه وزير الثقافة الى الرئيس ميقاتي بالقول :" دولة الرئيس في الزمن الصعب تبقى الثقافة ملجأً مَشاعا لكل الناس. لا لتنسيَهم واقعَهم بل لكي تدلهم على القواعد الفكرية والآليات العلمية الكفيلة بتخطيه، بعيدًا من استثارة العصبيات والأنانيات والفئويات. ولبيروت دور أساسي هو بث الوعي-الوعي لحتمية العيش معاً وغناه والوعي لما يُحاك من مساع ترمي الى التفرقة والإنقسام- ولبيروت هوية واحدة تتمثّل في ثقافة الإنفتاح والعزّة والحريّة، أما غيرُها مما قد تُنْسَبُ إليه العاصمة فَضَياع أو وهم أو هويَّاتٌ قاتلة كما قال أمين معلوف."